فصل: النظر الأول: في حقيقتها.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.كتاب الجوائح:

ثم إذا انعقد البيع فيها فهي بعده من ضمان البائع فيما يطرأ عليها من الجوائح لما روى مسلم في صحيحه عن جابر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح».
وروي عنه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: لو بعت من أخيك ثمراً فأصابه جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق.
ثم النظر في أحكام وضع الجوائح يتعلق ببيان حقيقتها وقدرها ومحلها.

.النظر الأول: في حقيقتها.

وقد روي عن ابن القاسم: أن الجائحة ما لا يستطاع دفعه وإن علم به. فلا يكون السارق عنده جائحة على هذا القول، وقاله في كتاب محمد.
وأما في الكتاب، فقال: ولو أن سارقاً سرقها كانت أيضاً جائحة في رأيي. والأول مذهب ابن نافع في الكتاب.
وقال مطرف وابن الماجشون: الجائحة ما أصاب الثمرة من السماء من عفن أو برد أو عطش أو فساد، بحر أو برد أو بكسر الشجر، وأما ما كان من صنع آدمي فليس بجائحة.
ومقتضى هذا أن الجيش ليس بجائحة. وفي الكتاب: من رواية ابن القاسم أن الجيش جائحة.

.النظر الثاني: في قدرها المعتبر.

ولا تحديد فيها إن كانت بسبب العطش، بل يوضع قليلها وكثيرها، كانت تشرب من العيون أو من السماء.
فإن كانت غير العطش فالقدر المعتبر فيها الثلث فما فوقه، فلا يوضع ما دونه إلا في البقول على رواية ابن القاسم في الكتاب أن فيها الجائحة، وأن جائحتها يوضع قليلها وكثيرها.
وأما على رواية علي بن زياد وابن أشرس، فتعتبر جائحتها بالثلث كغيرها. وروى غيرهما: أنه لا يوضع منه شيء.
ثم الثلث المعتبر هو ثلث مكيلة الثمرة عند ابن القاسم، ولو كان الثلث المذكور إنما يساوي عشر الثمن. ولا يوضع عنده ما دون ثلث المكيلة، ولو كان يساوي تسعة أعشار الثمن.
وقال أشهب: إنما ينظر في البطون إلى ما أذهبت الجائحة، فإن كان يصير لقيمته ثلث الثمن وضع، وإن كان من الثمر عشرة، وإن كانت قيمة ما أتلفت الجائحة لا يصير لها من الثمن ثلثه، بل أقل من ثلثه لم يوضع عن المشتري شيء وإن كان من الثمرة تسعة أعشارها.
فنظر ابن القاسم إلي أن الثلث إنما اعتبر ليميز النقص الذي يكون جائحة من النقص المعتاد الذي لا يكون جائحة، وذلك إنما يكون باعتبار الثمرة.
ونظر أشهب إلى أن المقصود القيمة، وبسببها يزيد الثمن وينقص، ومن أجل نقصه تلحق المضرة، وقد يكون اليسير من الثمرة له معظم الثمن، فإذا أصيب لحق الضرر، كما أنه لو أصيب الكثير من الثمرة ولا قيمة له لم يلحق بسبب ذلك كبير ضرر.
فروع:
الأول: إذا كان المبيع من الثمار في عقد واحد أجناساً مختلفة عنباً وتيناً ورماناً وغير ذلك، فأصيب جنس منها بجائحة وسلم سائرها، فجائحة كل جنس منها معتبرة به، فإن بلغت ثلثه وضعت، وإن قصرت عنه لم توضع. رواه ابن حبيب عن مالك.
وروى محمد عن أصبغ: أن جائحة المصاب معتبرة بالجملة، سواء كان ذلك في حائط واحد أو في حوائط مختلفة.
فعلى قول أصبغ: ينظر إلى قيمة الجنس الذي أصابته الجائحة. فإن كانت قيمته ثلث الجملة حكم بالجائحة، ولا يعتبر بثلث الثمرة إذا ذهب الجنس كله.
فإن ذهب بعضه فابن القاسم ينظر إلى الجنس الذي أصيب بعضه وإلى القدر المصاب منه ويعتبرهما جميعاً، فإن كانت قيمته بقدر ثلث قيمة الجملة وأصيب مع ذلك ثلث ثمرته حكم بالجائحة. وإن كان المصاب أقل من ثلث الثمرة لم تجب فيه جائحة. وكذلك إن كان ذلك الجنس أقل من ثلث الجملة في القيمة فلا جائحة فيه وإن أصيب جميعه.
وقال أصبغ: إنما ينظر في ذلك إلى ثلث القيمة فقط، فإن أصيب من الجنس الواحد ما يفي بثلث قيمة الجملة فهي جائحة. وإن كان أقل من ذلك فليس بجائحة.
الفرع الثاني:
إذا كان المبيع جنساً واحداً مختلف الأنواع فأصيب نوع منه فالاعتبار بثلث جميع المبيع باتفاق الأصحاب.
ثم المعتبر في رواية محمد عن مالك وعن ابن القاسم وعن عبد الملك ثلث الثمرة.
وفي روايته عن أشهب: ثلث القيمة.
الفرع الثالث:
إذا كان المبيع نوعاً واحداً، وكان يحبس أوله على آخره، كالتمر والعنب وما أشبههما في ذلك فالاعتبار في جائحته بثلث الثمرة. وحكى القاضي أبو الوليد: أن المذهب لا يختلف في ذلك.
فإن كان مما لا يحبس أوله على آخره كالقثاء والبطيخ والخوخ والتفاح ونحو ذلك، فالاعتبار عند ابن القاسم بثلث الثمرة. وعند أشهب بثلث القيمة.
الفرع الرابع:
إذا زادت الجائحة على الثلث حتى أصابت معظم الثمرة لزم المبتاع بقيتها. بخلاف من اشترى صبرة طعام فاستحق معظمها، أو اشترى طعاماً على الكيل، فذهب معظمه قبل الكيل فإنه لا يلزم المبتاع ما بقي.
والفرق أن الجوائح معتادة، فلا تسلم الثمرة من يسيرها في العادة، وكثيرها متكرر فيها، والمشتري قد دخل على الرضى بما بقي منها، بخلاف الاستحقاق فإنه أمر نادر والمشتري لم يدخل عليه.

.النظر الثالث: في محل الجائحة.

والثمرة المبيعة على ضربين: أحدهما: يحتاج إلى بقائه في أصله لانتهاء صلاحه وطيبه، كثمرة النخل والعنب إذا اشتري عند بدو صلاحه، وكثمرة التفاح والتين والبطيخ والورد والياسمين والفول والجلبان.
والضرب الثاني: يحتاج إلى ذلك، لبقاء رطوبته ونضارته كثمرة العنب إذا اشتريت بعد انتهاء طيبها، وكالبقول والقصيل، والأصول المغيبة من الجزر والشلجم والبصل والثوم.
فأما الضرب الأول، فلا خلاف عندنا في وضع الجائحة فيه، كما لا خلاف في أن ما لا يحتاج إلى بقائه في أصله لتمام صلاحه ولا لبقاء نضارته، كالتمر اليابس والزرع، لا جائحة فيه لأن تسليمه قد كمل، فصار بمنزلة الصبرة الموضوعة بالأرض.
وأما الضرب الثاني من الضربين الأولين، وهو المحتاج إلى البقاء في أصله لحفظ نضارته كالعنب المشترى بعد تمام صلاحه وما ذكر معه، فقال القاضي أبو الوليد: مقتضي رواية أصبغ عن ابن القاسم: أنه لا يراعى البقاء لحفظ النضارة وإنما يراعى تكامل الصلاح. قال: ويجب أن يجري هذا المجرى كل ما كان هذا حكمه، كالقصيل والقصب والبقول والقرظ، فلا توضع جائحة في شيء في ذلك. قال: ومقتضى رواية سحنون: أن توضع الجائحة في جميعه.
ويتم المقصود من النظر في أحكام الجوائح بذكر فروع:
الأول: أن ما انتقل مما فيه الجائحة على وجه البيع المحض مفرداً عن أصله فالجائحة فيه موضوعة. فأما ما كان مهراً في نكاح فاختلف فيه أصحابنا:
فقال ابن القاسم: لا جائحة فيه، لأنه عقد لا يقتضي المغابنة والمكايسة، وإنما يقتضي المواصلة والمكارمة، ووضع الجائحة لن يرد في ذلك.
وقال ابن الماجشون: فيه الجائحة، وقاسه على البيع بجامع الرد بالعيب.
الفرع الثاني:
من اشترى عريته، فقال مالك وابن القاسم وابن وهب: توضع فيها الجائحة.
وقال أشهب: لا توضع فيها جائحة.
وهذا إذا كانت العرية نخلاً معينة. فإن كانت أوسقاً من حائط، فلا يبقى إلا مقدار تلك الأوسق لزم المبتاع أداؤها، بمنزلة من أوصى بثمرة حائطه لإنسان، ولآخر منه بخمسة أوسق، فتلفت الثمرة إلا خمسة أوسق فإن جميعها له دون من أوصى له بجميع الثمرة.
الفرع الثالث:
من باع ثمرة حائطه واستثنى منها أصوعاً مقدرة فأجيحت، فقد روى ابن القاسم وأشهب: يوضع من العدد المستثنى بقدره.
وقال ابن القاسم في الكتاب: إن قصرت الجائحة عن الثلث لم يوضع عن المشتري شيء، وإن بلغت الثلث وضع عن المبتاع مما استثنى البائع بقدر ما يوضع عنه من ثمن الثمرة.
قال ابن القاسم: وهذا بخلاف الصبرة يبيعها ويستثني منها كيلاً يكون الثلث فأدنى فتهلك الصبرة إلا ما استثنى البائع منها، فإن له ذلك دون المبتاع.
وروى ابن وهب: لا يوضع من العدد المستثنى قليل ولا كثير، أجيح أكثر الثمرة أو أقلها.
قال القاضي أبو الوليد: وهذا عندي مبني على ما يقتضيه اختلاف قول مالك في المستثنى من الثمرة كيلاً.
فعلى ما يقتضيه قوله من أن المستثنى تناوله البيع وارتجع، بعد ذلك بعقد الاستثناء فلا جائحة فيه، لأن البائع ابتاع من المشتري ما استثناه من عدد الأوسق، فوجب أن يكون مقدماً في ثمرة الحائط، ولو لم يبق من الحائط غير ذلك.
وعلى ما يقتضيه قوله: إن المستثنى لم يتناوله البيع، وإنما أبقاه الاستثناء على ملك البائع، وأن ذلك قد صار به البائع شريكاً للمبتاع، فوجب أن تكون الجائحة بينهما على قدر ما لكل واحد منهما من ثمرة الحائط.
الفرع الرابع:
إن مشتري الثمرة إما أن يقتصر على شرائها، وإما أن يشتري أصلها أيضاً، فإن اقتصر على شرائها فالحكم في وضع الجائحة فيها ما تقدم، وإن اشتراها واشترى أصلها، فإن كان معها في صفقة واحدة فلا جائحة فيها. وإن كانا في صفقتين، فإن اشترى الأصل ثم الثمرة بعد بدو صلاحها صح العقد، واختلف في وضع الجائحة فيه، وإن كانت لم يبد صلاحها كان شراء مختلفاً فيه، ومن أجازه أسقط فيه الجائحة، وإن اشترى الثمرة ثم الأصل فإن كان بعد بدو الصلاح كان من البائع، والسقي باق عليه، ولو اشترط البائع ألا سقي عليه لم تسقط الجائحة عنه.
ولو اشترى الثمرة قبل بدو صلاحها على الجداد، ثم اشترى النخل جاز للمشتري أن يبقى الثمرة حتى تطيب ومصيبتها منه.
وإن قال المشتري: أنا أجدها حسب ما اشتريت عليه كانت مصيبتها من البائع، إلا أن يتراخى بالجداد عن الوقت الذي كان يجدها فيه.

.القسم الخامس من كتاب البيع: في مداينة العبيد والتحالف فيه:

وفيه بابان:

.الباب الأول: في معاملة العبيد.

والنظر في المأذون له في التجارة وغيره.
أما المأذون فالنظر فيما يجوز له وفي العهدة، وفيما تقضى منه ديونه.
أما ما يجوز له من التصرف فهو كل ما يدخل تحت اسم التجارة، أو كان من لوازمها مما يعود بنماء المال.
وحكمه في ذلك حكم الشريك المفاوض والوكيل المفوض إليه. وليس له أن يضع من المال عمن عامله ولا أن يؤخره به، ولا أن يعمل طعاماً يجمع عليه التجار، إلا أن يكون جميع ذلك منه استيلافاً للتجارة، أو يعلم من أهله أنهم لا يكرهون ذلك. وله أن يتصرف فيما اكتسبه بوصية أو هبة أو نحو ذلك. وله أن يعامل سيده.
واختلف إذا أذن له في التجارة فأخذ قراضاًَ أو أعطاه فأجازه ابن القاسم.
ومنعه أشهب. ورأى أن أخذه منه لنفسه ودفعه إيداع منه للمال، وليس له ذلك.
ويقبل إقراره بالدين فيما بيده، ثم لا يتهم عليه قبل قيام الغرماء، وإن حجر عليه سيده.
وقال ابن وهب في كتاب محمد: لا يجوز إقرار بعد حجر سيده، وإن لم يقم الغرماء عليه.
وأما العهدة فإنه المطالب بديون معامليه دون سيده فيتعلق بذمته، إن لم يكن بيده ما يوفي منه، لا برقبته ولا بذمة سيده. وإن عتق طولب بها، ثم لا رجوع له بما غرم على السيد.
وأما قضاء ديونه فمن مال التجارة لا من رقبته، وتباع فيها أم ولده، ولا يباع فيها ولده، لأنهم ليسوا بملك له، إلا أن يشتريهم وعليه دين فإنهم يباعون فيه، لأنه يتلف أموال غرمائه، وليس له ذلك، وهم في هذا الموضع ملكه.
فروع متتالية: قال أبو الحسن اللخمي: لا ينبغي للسيد أن يأذن لعبده في التجارة إذا كان غير مأمون فيما يتولاه، إما لأنه يعمل بالربا، أو خائن في معاملته، أو نحو ذلك. فإن تجر فربح وكان يعمل بالربا تصدق السيد بالفضل، وإن كان يجهل ما يدخل عليه من الفساد في بيعه ذلك استحسن له التصدق بالربح من غير إجباره.
وقال مالك في الكتاب: لا أرى للمسلم أن يستتجر عبده النصراني ولا يأمره ببيع شيء لقول الله تعالى: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه}.
قال أبو الحسن اللخمي: فإن أذن له فيتجر مع المسلمين، كان الحكم فيما أتى به كالحكم في العبد المسلم. قال: ويختلف إذا تجر مع أهل دينه فأربى، أو تجر في الخمر، فعلى القول بأنهم مخاطبون بفروع الشريعة يكون الجواب على ما تقدم إذا بايع مسلماً، وعلى القول بأنهم غير مخاطبين إلا بعد تقدم الإسلام يسوغ للسيد ما أتى به من ذلك. قال: وقد كان لابن عمر عبد نصراني يبيع الخمر.
وهذا كله إذا كان تجره لنفسه، فإن كان تجره لسيده لم يجز شيء من ذلك، وصار بمنزلة ما لو كان السيد المتولي لذلك البيع، لأنه وكيل له.
وللسيد الحجر على عبده بعد الإذن له، وأن اغترق الدين ما بيده ويمنعه التجارة، ثم يكون ما بيده لغرمائه دون سيده، إلا أن يفضل عنهم شيء، فيكون له أو يكون هو أحدهم فيشاركهم.
وليس للغرماء أن يحجروا على العبد لكن لهم القيام بدينهم فيفلسونه، وهو في هذا كالحر.
وإذا أراد السيد الحجر عليه فلا يفعل ذلك دون السلطان حتى يكون السلطان هو الذي يوقفه للناس. قال مالك: ومن ذلك أن يأمر به السلطان فيطاف به حتى يعلم ذلك منه. فإن حجر السيد عليه دون السلطان فقال ابن حارث: ابن القاسم يقول: لا يجوز رده إلا عند السلطان، وغيره يقول: حيث رده السيد فهو مردود.
وقال أبو الحسن اللخمي: إن لم تطل إقامته فيما أذن له فيه ولم يشتهر أجزأ حجر السيد، ويذكر ذلك عند من يخالطه أو يعامله في سفره. وإن طال ذلك واشتهر الإذن له كان الحجر للسلطان يسمع بذلك ويظهره.
وأما غير المأذون فملكه موقوف، لا تجوز فيه أحكامه، معاوضة كانت أو معروفاً.
وأحكامه فيها أحكام المحجور عليه، ينعقد بيعه إن باع، ويقف الفسخ على اختيار السيد، ويجوز اتهامه وقبوله للوصية، ولا يقف ذلك على إذن سيده، ويخلع زوجته.
ثم المأذون وغيره يملك ملكاً لا يساوي الحر فيه. فملكه غير مستقر، لأن للسيد أن ينتزعه منه متى شاء.
ودليل كونه قابلاً للملك أن الله سبحانه أضاف إليه الغنى والفقر، وأضاف له رسول الله صلى الله عليه وسلم المال، ولأنه حي آدمي ويصح منه ملك الأبضاع، وهو أضيق أسباباً من الأموال.
كيف وقد صح منه تعاطي أسبابه من قبول الوصية ونحوه، وقد اتفقنا على جواز تجارته ببيعه وشرائه بالغبن والدين، إذا كان مأذوناً، مع كون الدين لا يلزم السيد، ولو أتلف أموال الناس لتعلق الدين بذمته دون رقبته، كما تقدم، والدين من فروع الملك.

.الباب الثاني: في اختلاف المتبايعين:

وما يترتب عليه من التحالف وغيره:
وللأصحاب في الحكاية عن المذهب طريقان:
أحدهما: التفصيل، وهو طريق المتأخرين، ويحصره النظر في كيفية الاختلاف وأحواله ثم في تنزيل الأحكام على الأحوال.
النظر الأول: في كيفية الاختلاف. وينحصر في الثمن، وصفة العقد.
أما الثمن، فالاختلاف فيه في خمسة أحوال: جنسه ونوعه ومقداره وتعجيله وتأجيله وقبضه.
وأما صفة العقد فالاختلاف فيها في حالين: الخيار والبت، والصحة والفساد.
النظر الثاني: في تنزيل الأحكام على الأحوال.
أما الحال الأول من القسم الأول، وهو الاختلاف في جنس الثمن، مثل أن يقول أحدهما مثلاً: دنانير، ويقول الآخر: ثوب، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان على الإطلاق، إذ ليس أحدهما بتصديق قوله بأولى من الآخر، ولم يقر البائع بإخراج سلعته بما قاله المشتري جملة ولا تفصيلاً.
وأما الحال الثاني منه، وهو الاختلاف في نوع الثمن، مثل أن يقول أحدهما مثلاًَ: قمح، ويقول الآخر: شعير، فقيل: ذلك يجري مجرى الحال الأول، وهو شهادة بتباعد الأغراض، وقيل: يجري مجرى الحال الثالث، وهو شهادة بتقارب الأغراض.
وأما الحال الثالث منه، وهو الاختلاف في مقدار الثمن ففي المذهب فيه أربع روايات:
إحداها: أنهما يتحالفان ويتفاسخان، وما لم يقبض المشتري السلعة، فإن قبضها صدق في الثمن.
الثانية: أنهما يتحالفان ويتفاسخان وإن قبضها، ما لم يبن بها فيصدق حينئذ. والروايتان لابن وهب.
والرواية الثالثة: أنهما يتحالفان ويتفاسخان وإن قبضها وبان بها، ما لم تفت بتغير سوق أو بدن، فيكون القول قول المشتري، وهذه رواية ابن القاسم في الكتاب وبها أخذ.
والرواية الرابعة: أنهما يتحالفان ويتفاسخان، وإن فاتت في يد المشتري، ويرد القيمة بدل العين، وهذه رواية أشهب وبها أخذ.
قال الإمام أبو عبد الله: وهذا المذهب الذي كان يفتي به شيخنا رحمه الله. قال: وأنا فتي به أيضاً.
وسبب اختلاف: هذه الروايات أنه نظر في رواية أشهب إلى أن كل واحد منهما مدعى عليه، إذ البائع يقول: لم أخرج سلعتي إلا على صفة لم يقر بها المشتري، والمشتري يقول: لم أشتر إلا بما سميته. وهذا يقتضي التحالف والتفاسخ مطلقاً.
وأما رواية ابن القاسم فنظر فيها إلى أن بفوات السلعة يفوت ردها، وإنما تجب على المشتري قيمة، فصار البائع يدعي عليه عمارة ذمته بشيء وهو منكر له. ونظر في روايتي ابن وهب إلى ترجيح جانب المبتاع، فتارة اقتصر على وجود اليد وتارة أضاف إليها البينونة حتى تتأكد بها.
فروع: الأول: اعتبار الأشبه في الدعوى.
وقد قال الشيخ أبو الطاهر: إن فاتت السلعة فلا خلاف في مراعاته.
قال: وأما إن كانت قائمة فقولان، المشهور أنه غير مراعى، لوجود السلعة والقدرة على ردها، والبيع مظنة التغابن. والشاذ أنه يراعى. قال: وصوبه الأشياخ. ثم قال: وهذا ينبغي أن يكون خلافاً في حال، فإن ادعى أحدهما أشبه، وأبعد الآخر إلى ما لا يشبه، فينبغي أن لا يختلف أن القول قول من ادعى الأشبه. وإن ادعى الآخر ما هو ممكن، ويتغابن الناس بمثله، فلا يلتفت إلى الأشبه.
الفرع الثاني:
حيث حكمنا بالتحالف، فالبداية بالبائع.
وروى في المستخرجة أن البداية بالمشتري.
وقال بعض المتأخرين: هما سيان، فيقدم بالقرعة.
فنظر في المشهور إلى أن الملك في الأصل للبائع، والمشتري يدعي عليه إخراجه له بغير ما يقول إنه رضي به. ونظر في الرواية الأخرى إلى أن البائع مقر بالبيع ونقل الملك للمشتري ومدع في زيادة ثمن عليه ينكرها، ولما تقابل هذان الوجهان عند المتأخر المشار إليه قال بالقرعة.
الفرع الثالث:
وهو مرتب.
إذا قلنا بتبدئة البائع على المشهور، فهل ذلك من باب الأولى أو هو واجب؟
في ذلك خلاف، ينبني عليه الخلاف في ما إذا تناكلا. فمن قال: إن التبدئة من باب الأولى حكم بالفسخ، كما إذا تحالفا، وبه قال ابن القاسم. ومن قال: إنها واجبة، أمضى العقد بما قال البائع. وبه قال ابن حبيب.
التفريع: إذا بنينا على قول ابن القاسم فأراد أحدهما أن يمضي البيع بما قال الآخر وأبى صاحبه، فهل له ذلك أم لا؟ قولان، وإذا بنينا على قول ابن حبيب، فهل يفتقر البائع إلى اليمين؟ قولان أيضاً، أحدهما افتقاره إليها. وإليه ميل القاضي أبو الوليد: والثاني: عدم الافتقار إليها.
قال الشيخ أبو الطاهر: وعليه حمل هذه الرواية أكثر الأشياخ.
الفرع الرابع:
إذا حلفا فمذهب سحنون انفساخ العقد.
وقال ابن القاسم وابن عبد الحكم: بل يفتقر إلى إنشاء الفسخ.
وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا رضي أحدهما قبل الفسخ أن يمضي العقد بما قال الآخر.
فسحنون يمنع ذلك إذ حصل عنده الانفساخ بالفراغ من التحالف.
وقال ابن القاسم في الكتاب: إلا أن يرضى المبتاع قبل الحكم بالفسخ بما قال البائع فذلك له.
وقال ابن عبد الحكم: إذا أراد البائع أن يلزمها المشتري بما حلف عليه المشتري، فذلك له، وإن شاء فسخ البيع.
الفرع الخامس: حيث قلنا بالفسخ، فهل ينفذ ظاهراً أو باطناً، أو ظاهراً لا باطناً؟ فيه خلاف.
فائدته: حل الوطء والبيع، على القول الأول دون الثاني، لأنه فيه وطئ أو باع ملك الغير، وليس له أخذها عوضاً مما له عليه من الثمن، إذ لابد من البيع قبل ذلك.
الفرع السادس: في صفة اليمين:
وليبدأ الحالف باليمين على إبطال دعوى خصمه، ثم هل يقتصر على ذلك؟ لأن موضوع الأيمان دفع الدعاوي وإبطالها دون تصحيحها، أو يضم إلى ذلك تحقيق دعوى نفسه، لأن أحد الفصلين يتضمن الآخر، ولأنه على تقدير نكول الخصم لا تكفيه اليمين الأولى، ما لم يجدد يميناً أخرى، فكان له أن يجمع الفصلين في يمينه ليجترئ بها.
ولهذا قال أبو الحسن اللخمي: له أن يجمعهما إن شاء، ففوض ذلك إلى خيرته لما رأى أن الحق له لا عليه.
وأما الحال الرابع من القسم الأول في تعجيل الثمن وتأجيله، مثل أن يدعي البائع انعقاد البيع على كون الثمن حالاً والمشتري يدعي خلافه. فالأصل فيه أنه جار مجرى الاختلاف في مقدار الثمن كما تقدم في الحال الثالث، إلا أنه قد اعتيد الشراء بالنقد في بعض السلع، حتى صار ذلك العرف فيها. فإن ثبتت عادة في مبيع ما تصرف عن الأصل، وإلا فالرجوع إليه.
ولهذا نزل بعض المتأخرين ما وقع من الاختلاف بين الأصحاب في ذلك على شهادة بعادة. وقيل: القول قول البائع، وهو بناء على أن العادة التعجيل. وقيل بالتفرقة بين بعيد الأجل وقريبه، فيكون القول في دعوى الأجل البعيد قول البائع، وفي دعوى القريب يتحالفان ويتفاسخان، كالاختلاف في قدر الثمن، وكذلك إن اتفقا في أصله واختلفا في قدره فهو كالاختلاف في قدر الثمن.
وأما إن اتفقا في أصله وقدره واختلفا في انتهائه فالقول فيه قول من أنكر تقضيه.
وأما الحال الخامس منه، وهو الاختلاف في قبض الثمن، فالأصل أن الثمن باق بيد المبتاع والمثمون باق بيد البائع حتى يثبت الانتقال عن يد ذلك بيده، إما بالبينة وإما بعادة مستقرة، وقد استقرت في بعض المبايعات بالقبض كالبقل واللحم وشبههما، يشتري من أصحاب الحوانيت، فإذا قبضها المشتري وبان بها، فالقول قوله في دفع ثمنها. وفي تصديقه إذا قبضها ولم يبن بها، خلاف سببه الشهادة بالعوائد.
وأما الحال الأول من القسم الثاني، وهو الاختلاف في دعوى الخيار والبت، فروي عن ابن القاسم تصديق مدعي البت. وعن أشهب تصديق مدعي الخيار. وبنى المتأخرون هذا الاختلاف على القول بتبعيض الدعوى.
وأما الحال الثاني منه، وهو الاختلاف في دعوى الصحة والفساد، ففي الكتاب: أن القول قول مدعي الصحة مطلقاً من غير تفصيل، لكن نزل المتأخرون على أن الاختلاف في ذلك لا يؤدي إلى الاختلاف في زيادة الثمن ونقصانه.
فأما إن أدى إلى ذلك فحكمه حكم الاختلاف في قدر الثمن. قالوا: وأما لو كان لا يؤدي إلى ذلك كقول أحدهم: لم أر المبيع، أو وقع البيع وقت الجمعة، وشبه ذلك، والآخر ينكره، فالمذهب: القول بالصحة. قالوا: لأنه الأصل في التعامل بين المسلمين.
وعلى هذا قال أبو محمد عبد الحميد وغيره من المتأخرين: لو كان الغالب التعامل على الفساد لكان القول قول مدعيه. قالوا: وكذلك وقع لسحنون في المغارسة إذا تداعيا فيها الصحة والفساد، إن القول قول مدعي الفساد، لأنه شهد أن الغالب فسادها في زمانه.
فرع:
قال الإمام أبو عبد الله: ذكر المتأخرون من أصحابنا أن كل معنى يؤدي إلى الاختلاف في الثمن فحكمه حكم الاختلاف فيه، ومثلوا ذلك باختلاف المتبايعين في الأجل أو شرط رهن أو حميل أو يقول أحدهما: شرطت الخيار لي، ويقول الآخر: شرطت الخيار دونك، أو عقدنا البيع بتلاً.
قال الإمام: وهذا الذي مثل به مما يؤدي إلى الاختلاف في الثمن صحيح. لكن قوله في اختلافهما في شرط الخيار أو وقوع البيع بتلاًَ مما يفضي إلى تحقيق، وهو النظر فيما يختاره مدعي الخيار: هل الإمضاء فيوافق مدعي البت، فلا يفتقر إلى يمين، أو يختار رد المبيع فيختلف هل يكون القول قوله أو قول مدعي البت؟ هذا تمام طريق المتأخرين.
أما الطريق الثاني، فقال القاضي أبو الحسن: إذا تبايعا شيئاً ثم اختلفا في مقدار الثمن أو اتفقا في الثمن ولكن اختلفا في المثمن، فقال البائع: بعتك هذا الثوب بألف درهم، وقال المبتاع: بل هذا الثوب وثوباً آخر ابتعت بألف. وكذلك إذا اختلفا في الأجل فقال البائع: نقداً، وقال المبتاع: إلى أجل، عينه. وكذلك لو قال البائع: بعتك على ألا خيار لك، وقال المبتاع: بل لي خيار، أو قال: بعتك على شرط الرهن، وقال المبتاع: لا، بل لا رهن، أو قال: على شرط التضمين، وقال المبتاع: بلا شرط التضمين. فالحكم في هذه المسائل كلها واحد.
ثم ذكر أن المذهب فيها على ثلاث روايات، وترك رواية ابن وهب الثانية باعتبار البينونة مع القبض، فأسقطها وذكر سائر الروايات على ما تقدم في الطريقة الأولى.
وكذلك الأستاذ أبو بكر اقتصر أيضاً على الروايات الثلاث التي اقتصر عليها القاضي أبو الحسن بعد أن حكى قريباً مما حكى.

.كتاب السلم والقرض:

.القسم الأول: السلم.

والأصل فيه قول صلى الله عليه وسلم: من أسلم في تمر، فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم.
وفيه بابان:
الأول في شرطه، والثاني في أداء المسلم فيه.

.الباب الأول: في شروط السلم:

وهي ستة:
الأول: تسليم جميع رأس المال، حذاراً من الدين بالدين. ولا يشترط قبضه في المجلس، ولا يفسد العقد بتأخيره بالشرط: اليوم واليومين. وفي كتاب بيع الخيار: الثلاثة أيضاً.
وحكى ابن سحنون وبعض البغداديين فساد السلم إذا افترقا قبل القبض. وهو خلاف في حكم المقارب للشيء هل هو كحكم الشيء أم لا؟.
ويرجع الخلاف أيضاً إلى اعتبار ما يسمى ديناً بدين وما لا يسمى بذلك.
أما تأخيره بالشرط زيادة على الثلاثة فمفسد للعقد. وأما بغير شرط ففي الفساد به قولان في العين خاصة.
ولا يفسد بتأخير العرض، إذ لا يتصور فيه دين بدين، لكن يكره إذا كان مما يغاب عليه كالطعام والثوب.
قال بعض المتأخرين: لأنه يقرب شبهه بالدنانير والدراهم فضاهى الدين بالدين. قال غيره منهم: إنما يتصور هذا إذا كان الطعام لم يكل: والثوب غائباً عن مجلس العقد، وأما لو كيل الطعام وحضر الثوب لم تكن كراهية إذ لم يبق حق توفية، كما أجازوا أخذ سلعة حاضرة من دين يتركها مشتريها اختياراً مع التمكن من قبضها. ويستوي في إفساد العقد بجملته تأخير بعض المال وكله. ومهما فسخ السلم استرد رأس المال. ولو كان رأس المال غير الدنانير والدراهم وقد عين، وهو جزاف غير مقدر جاز العقد، كما يجوز مع البيع، وكما يجوز في الجهل بقيمته.
وقال الشيخ أبو الطاهر: ظاهر قول القاضي أبو محمد منع كون رأس المال جزافاً.
قال: والمذهب كله على خلافه.
فرع:
إذا اتحد جنس المسلم والمسلم فيه، فتشترط السلامة من التفاضل والنساء: بأن يكون غير طعام ولا نقد، ومن سلف جر نفعاً، بألا يسلم الشيء في ما يزيد عليه، كانت الزيادة من جنسه أو من غير جنسه، إلا أن تختلف منافعها، كإسلام الحمار الفاره النجيب في الحمر الأعرابية، والفرس الجواد الذي له سبق يسلم في حواشي الخيل، وكذلك ما عرف فبان بالنجابة والحمولة من الإبل في حواشيها، والبقرة الفارهة القوية على العمل والحرث في حواشي البقر، وكذلك الشاة الغزيرة اللبن في حواشي الغنم، ومثل كبار الخيل والبغال والحمير والبقر في صغارها، وكجذع نخل كبير غلظه وطوله كذا في جذوع صغار لا تقاربه، وكعبد له نفاذ وتجارة في نوبيين أو غيرهما لا تجارة فيهما. وكذلك في جميع أجناس الأموال.
الشرط الثاني: أن يكون المسلم فيه ديناً، فاعلم فلا ينعقد في عين محاذرة من الغرر ببيع المعين إلى أجل، أو على تخليصه من يد مالكه، ولأن لفظ السلم للدين. ولو أسلم بلفظ الشراء انعقد سلماً وعجل رأس المال.
ثم يترتب على اشتراط التعلق بالذمة فرعان:
الأول: إنه لا يجوز أن يسلم في نسل حيوان بعينه وإن وصفه صفة تحصره، نفذ أو لم ينفذ.
وقال أبو القاسم السيوري: إذا لم ينفذ وشرط أنه إن سلم ووافق تم البيع، وإلا لم يتم، جرى على قولين تخرجا من مسألة كراء الأرض الغرقة. وكذلك من اشترى ما يخرج من شيء واشترط التمام إن خرج على صفة ولم ينفذ فيه الخلاف أيضاً، وينخرط في هذا السلك السلف في حديد معدن بعينه أو صوف غنم وألبانها، وما أشبه ذلك.
فأما لو كانت الإشارة إلى نعم كثيرة لا يتعذر الشراء منها لمن أراد، وإنما أشير إليها لمعنى انفردت به لجاز السلم في نسلها إذا وصف.
وكذلك يجري الحكم في ما ذكرناه من الحديد والغلات وما جرى مجرى ذلك.
الفرع الثاني:
السلف في تمر موضع مشار إليه، وله ثلاث صور:
الأولى: أن يكون حائطاً بعينه. فهذا حكمه حكم البيع. والنص على أنه يلزمه، إن كان البيع بعد أن أزهى وصار بسراً على أن يأخذ بسراً أو رطباً ويضرب أجلاً لا يتمر إليه ويسمى ما يأخذ كل يوم. ولا يشترط أن يأخذ كل يوم ما شاء. ولو اشترط أخذ الجميع في يوم سماه لجاز.
وقال بعض المتأخرين: إن سموه بيعاً لم يلزم ذلك فيه، وإن سموه سلماً لزم.
الصورة الثانية: عكس الأولى، وهي أن يسلم في تمر مصر عظيم. فهذا حكمه حكم السلم المحض، فيجوز، وإنما يشار إلى الموضع، لكونه كالصفة لما يسلم فيه، كما تقدم في الحيوان.
الصورة الثالثة: أن تكون القرية الصغيرة، وهذه الصورة قد أعطوها حكم السلم في اشتراط النقد وفي جواز السلم لمن لا يملك فيها تمراً على خلاف بين المتأخرين في هذا الوجه خاصة، وأعطوها أيضاً حكم الحائط بعينه، في أنها لا يجوز السلم فيها إلا بعد الزهو، وفي أن العاقدين يؤمران أن يشترطا أخذ ما أسلما فيه قبل بلوغه إلى أن يصير تمراً، وفي اشتراط تسمية ما يأخذ كل يوم كما تقدم.
الشرط الثالث: أن يكون المسلم فيه مؤجلاً، لئلا يكون من بيع ما ليس عند الإنسان وروى ابن وهب وابن عبد الحكم جواز السلم إلى يومين أو ثلاثة. وزاد ابن عبد الحكم عنه الإجارة إلى يوم، فقيل: هذه رواية في جواز السلم الحال.
وقيل: لا يختلف المذهب في اشتراط الأجل، وإنما هذا الخلاف في مقداره.
والمشهور من المذهب أنه المسافة التي تختلف فيها الأسواق غالباً، كخمسة عشر يوماً ونحوها. ويقوم مقام ضرب الأجل أن يعين القبض ببلد غير بلد العقد مما تتغير الأسواق بينهما كثلاثة أيام، ونحوها.
ثم يجوز تأقيت الأجل بالنيروز والمهرجان وفصح النصارى وفطير اليهود، إن كان ذلك يعلم دون مراجعتهم. وكذلك يجوز بالحصاد والدراس وقدوم الحاج وشبهه مما نضبطه العادة، فيرجع إلى ميقات معلوم عند الناس، أو في حكم المعلوم عبر عنه بما يكون غالباً، لا أن المراد به وجود ذلك الفعل في أي زمان كان، وهذا كخروج العطاء مثلاً، فإن المقصود بذكره الزمن المعتاد خروجه فيه، وليس المراد به خروج العطاء في أي زمان خرج.
ثم حيث أقت بالحصاد أو الدراس وشبههما، فيكون الأجل وجود معظم ذلك، لا أوله ولا آخره.
ولو قال: إلى ثلاثة أشهر احتسب بالأهلة، إلا أن يكون الشهر الأول انكسر في الابتداء، فيكمل ثلاثين من الشهر الرابع. ولو قال: إلى الجمعة أو إلى رمضان حل بأول جزء. ولو قال: في الجمعة أو في رمضان، فهو من أوله إلى آخره، ويكره بدءاً.
فإن وقع فقال القاضي أبو الوليد: إن كان هذا المقدار إذا نسب إلى جملة الأجل زاد الثمن أو نقص فسخ السلم، وإن كان الأجل من البعد على حد تكون نسبة الشهر إليه في حد اليسير، ولا يؤثر في الثمن، فلا ينقص السلم.
ولو قال: إلى أول الشهر أو آخره جاز. ولو قال: إلى آخر يوم في أوله أو أول يوم في آخره لجاز، إذ الأول الخامس عشر، والثاني السادس عشر.
الشرط الرابع: أن يكون المسلم فيه مقدوراً على تسليمه عند المحل؛ لئلا يكون ذلك تارة بيعاً وتارة سلفاً، فلا يصح السلم في المنقطع لدى المحل، ولا يضر الانقطاع قبله ولا بعده.
ولو أسلم في وقت الباكورة في قدر كثير يعوز تحصيله لم يصح.
فرع:
إذا آخر المسلم إليه المسلم فيه حتى انقطع وخرج إبانة وأعوز وجوده، فالمسلم بالخيار في الفسخ أو الإبقاء إلى عام ثان. وإن قبض البعض ثم انقطع، فقال مالك: يتبعه إلى عام قابل. ثم قال: لا بأس بأخذ بقية رأس ماله. واختلف أصحابه وأصحابهم، فقال سحنون: يجب التأخير.
وقال أشهب: تجب المحاسبة.
وقال ابن القاسم: يجب التأخير إلا أن يتراضيا بالمحاسبة.
وقال أصبغ: تجب المحاسبة إلا أن يتراضيا بالتأخير.
وقال غيرهم: الخيار للذي له السلم في المحاسبة والتأخير.
وحكى المتأخرون عن ابن القاسم أنه متى قبض الأكثر جاز تأخير الباقي إلى قابل، وإن قبض اليسير وجبت المحاسبة.
قال بعض المتأخرين: وهذه الأقوال تجري على أصلين، أحدهما: من خير بين شيئين فاختار أحدهما: هل يعد كالمنتقل من أحدهما إلى الآخر أو يعد كالآخذ ما وجب له.
والأصل الثاني: هل المقصود المشتري والأجل في حكم التبع أو المقصود المشتري في أجل محصور ولأنه إنما تحصل المنفعة الكبرى بتعجيله؟
فرأى سحنون وابن القاسم أن المقصود الأول هو المشتري، إلا أن سحنون عد المخير منتقلاً، فيصير كمن باع طعاماً قبل قبضه. ولم يعده ابن القاسم منتقلاً. وعلى هذه الطريقة يخرج قول مالك.
وروى أصبغ وأشهب أن المقصود الثمرة في زمن محصور إلا أن أشهب عد المخير منتقلاً، فيصير كمن وجب له دين معجل ففسخه في ثمرة إلى عام ثان. ولم يعده أصبغ منتقلاً.
وكذلك القائل الخامس لم يعده منتقلاً، ورأى أن الآجل مملوك للمشتري، فيصرف الأمر فيه إلى اختياره.
وأما الرواية بالتفرقة بين قبض القليل والكثير فبناء على إعطاء الأتباع حكم متبوعاتها.
الشرط الخامس: أن يكون معلوم المقدار بما جرت العادة بتقديره به من الوزن أو الكيل أو العدد أو الزرع أو غير ذلك من المقادير المعتادة فيه، فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم أو عدد معلوم أو ذرع معلوم إلى أجل معلوم.
ويكفي العدد في المعدودات ولا يفتقر إلى الوزن إلا أن تتفاوت آحاده تفاوتاً يقضي باختلاف أثمانها، فلا يكفي فيها حينئذ مجرد العدد والمعدود كالبيض والباذنجان والرمان، وكذلك الجوز واللوز إن جرت عادة بيعه بالعدد، وكذا التين، وكذا البطيخ إذا كان متقارباً غير بين التفاوت، وكذلك جميع ما يشبه ما ذكرنا.
ولو عين في المكيل مكيالاً لا يعتاد كالكوز فسد العقد، إلا أن تعرف نسبته من المعتاد.
وإن كان معتاداً صح العقد وبطل الشرط لأنه لغو.
الشرط السادس: معرفة الأوصاف لرفع الخطر بجهل الصفة، فلا يصح السلم إلا في ما ينضبط فيه كل وصف تختلف به القيمة اختلافاً ظاهراً لا يتغابن الناس بمثله في السلم.
ويصح في المصنوعات والمختلطات إذا أمكن ضبطها بالصفة. ويجوز في الحيوان للأخبار والآثار، فيتعرض للنوع واللون والذكورة والأنوثة والسن، وبالجملة فيتعرض لكل ما تختلف الأغراض وتتفاوت الأثمان بسببه إذا لم يؤد إلى عزة الوجود. فيذكر في الرقيق الجنس، فيقول: رومي أو حبشي أو تركي أو غير ذلك. واللون فيقول: أحمر أو أسود أو ذهبي أو غير ذلك. والذكورة أو الأنوثة، ويذكر فيها البكارة أو الثيوبة إن كان الثمن يختلف بذلك عندهم اختلافاً مقصوداً. ويذكر السن فيقول: يفاع أو محتلم أو غير ذلك مما ينبي عن سنه، أو يذكر عدد السنين، ويذكر القد، فيقول: قصير أو طويل أو ربعة، ويذكر الجودة أو الدناءة.
ثم يترك كل شيء على الغالب، فإن لم يكن فالوسط. ويقول في البعير: ثني أحمر من نعم بني فلان، ويتعرض في الخيل للون والسن والنوع أيضاً. ويتعرض في الطير للنوع والكبر والصغر من حيث الجثة. ويقول في اللحم: لحم بقر أو غنم ضأن أو معز ذكر أو أنثى، خصي أو غير خصي، رضيع أو فطيم، معلوفة أو راعية. ولا بد من بيان السن، فيقول: ثني، أو رباع، أو جذع إلى غير ذلك من أوصاف السن التي يختلف الثمن باختلافها.
ولا يشترط تعيين الفخذ أو الجنب أو غيرهما. قال ابن حبيب: فإن اشترطه فحسن.
وقال ابن القاسم: إنما يشترطه أهل العراق، وهو باطل، قيل له: أفيعطيه من البطن؟ فقال: أفيكون لحم بلا بطن؟ فقيل: وما مقدار ما يعطيه من البطن؟ قال: قد جعل الله لكل شيء قدراً.
قال الإمام أبو عبد الله: وإذا كان الثمن يختلف باختلاف هذه الأعضاء فالأولى اشتراطه.
قال: ولعل الذي وقع في المذهب مبني على أن ذلك لا يختلف عندهم، أو يختلف ولكنه يعطيه من كل عضو بمقداره، حتى يجمع له ما بين الجيد والدنيء بالنسبة المعلومة فيها.
وحمل قول ابن القاسم أنه يعطيه من البطن إذا أسلم في اللحم على عادة عندهم. قال: والعوائد عندنا بخلاف هذا. ويذكر المسلم في اللحم السمن أيضاً.
ويصح السلم في المطبوخ والمشوي إذا كان يعرف تأثير النار فيه بالعادة، وكانت الصفة تحصره، ويصح السلم في رؤوس الحيوانات وفي الأكارع. ويجوز السلم في اللبن والسمن والزبد والمخيض، وفي الوبر والصوف والقطن والإبريسم والغزل المصبوغ وغير المصبوغ، وكذا في الثياب بعد ذكر الرقة والغلظ والنوع والطول والعرض. وكذا في الحطب والخشب والحديد والرصاص وسائر أصناف الأموال إذا اجتمعت الشرائط التي ذكرناها.
ولو اشترط الجودة جاز، ونزل على الغالب، فإن لم يكن فالوسط منها، وكذلك الدناءة.
قال الإمام أبو عبد الله: والظاهر من مقتضى أصولنا جواز السلم وإن اشترط أجود الطعام أو أدناه.
تكملة: قال الإمام أبو عبد الله: الصفات التي تجب الإحاطة بها هي التي يختلف الثمن باختلاف أحوالها، فيزيد عند وجود بعضها وينقص عند انتقاص بعضها، ولا طريق إلى العلم بهذه الصفات التي يختلف الثمن باختلافها وإلا بالرجوع إلى العوائد واعتبار المقاصد.
قال: وقد تختلف العوائد باختلاف البلاد وأغراض سكانها، فيجب على الفقيه أن يجعل العمدة في هذا الإسناد إلى عوائد سكان البلد الذي يفتي أهله، فينظر ما يقصدون إليه من الصفات، ويزيدون في الثمن لأجله فيضبطه، ويشترط في صحة السلم ذكره.

.الباب الثاني: في أداء المسلم فيه:

والنظر في صفته وزمانه ومكانه:
أما صفته: فإن أتى بغير جنسه فذلك اعتياض، وهو غير حائز في المسلم فيه إلا بثلاث شرائط:
- أن يكون المسلم فيه مما يجوز بيعه قبل قبضه.
- وأن يكون المقتضي مما يجوز أن يسلم فيه رأس المال.
- وأن يكون مما يجوز بيعه بالمسلم فيه يداً بيد.
وإن أتى بجنس وهو أجود وجب قبوله، وإن كان أردأ جاز قبوله ولم يجب.
وإن زاده بعد الأجل دراهم على أن أعطاه أزيد في الثوب طولاً أو عرضاً، جاز إذا عجل الدراهم. قال في الكتاب: لأنهما صفقتان، كما لو دفعت إليه غزلاً ينسجه ثوباً، ثم زدته في الأجر على أن يزيدك في طول أو عرض. وأنكره سحنون ورآه ديناً بدين، وأجازه في الإجارة لأنه شيء بعينه، والسلم مضمون.
وإن أتى بنوع آخر، فإن أسلم في الزبيب الأبيض فجاء بالزبيب الأسود جاز القبول.
وأما الزمن: فلا يطلب به قبل محله، ولو جاء به قبله بالزمن الكثير لم يلزم قبوله.
وألزمه المتأخرون قبوله في اليوم واليومين إذ لا تختلف فيه الأغراض ولا تتغير فيه الأسواق.
وأما مكانه: فحيث يشترطان، ولا يقتصر على ذكر عمل كمصر مثلاً حتى يسمي أي موضع منها، فلو عين الفسطاط جاز. فإن تشاحا في أي موضع منه لزم في سوق السلعة المبيعة. فإن لم يكن لها سوق معروف لزمه القبض حيثما أعطاه. فإن لم يعينا في العقد مكاناً، فمكان العقد. فإن ظفر به في غيره وكان في النقل مؤونة حمل لم يطلب به، وإن لم تكن مؤونة حمل ففي ثبوت المطالبة خلاف.
ولا يجوز أن يقضيه بغير المكان المعين، ويأخذ كراء مسافة ما بين المكانين، لأنهما بمنزلة الأجلين.